تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- " الهام سعيد فريحة "
"أَرجِعْ لَنا ما كان، يا دَهرُ في لُبنان
يا دَهرُ… كانَت لَنا، أَحلامُنا وَالمُنى".
لا أدري لماذا بَقِيَتْ تتردَّدُ في ذهني هذهِ الكلماتُ لشاعرنا الياس أبو شبكة، في اليومينِ الأخيرين، منذُ اللحظةِ التي أحتفلنا فيها مع أهلنا وأشقائنا الأحباءِ في دولةِ الإماراتِ العربيةِ المتحدة بإنجازهم الفضائيِّ العظيم.
تذكَّرتُ أن أحلامَنا وأمنياتنا في لبنانَ كانت أيضاً عظيمةً ذاتَ يومٍ، وفي مجالِ الفضاءِ أيضاً.
ولو كُتِب لها أن تُزهِرَ وتُثمرَ، لكنّا اليومَ جنباً إلى جنبٍ مع إخوتنا فريقِ العملِ الإماراتيِّ، نُطلقُ إلى الفضاءِ لواءَ العقلِ والعلمِ وعروبةَ الحداثةِ والمستقبلِ.
فإلى أبناءِ الجيلِ الذين ربما تغيبُ عنهم الحقائقُ، تعالوا نُخبركمْ قصةَ صاروخنا الوطني، صاروخِ "الأرزِ" الذي تَعمْلقَ وتألّقَ في الفضاءاتِ الرحبةِ،
قبل 60 عاماً… ثم طُويت صفحاتُهُ فجأةً، وبلا تبريرٍ!
***
كان عقدُ الستيناتِ من القرنِ العشرين ذهبياً في لبنان، بكلِّ معنى الكلمةِ:
في السياسةِ، كانَ رأسُ الدولةِ هو القائدُ الحقيقيُّ للجمهوريةِ والمؤسساتِ وبانيها العظيم، الرئيس فؤاد شهاب، ومعهُ أركانٌ كبارٌ كالرئيس رشيد كرامي والمير مجيد ارسلان وعادل عسيران، سامي الصلح، خليل الهبري، احمد الداعوق، صائب سلام وحسين العويني،رجالٌ كبارٌ في الوطنيةِ والزهدِ والانفتاحِ،وفي الصحافةِ أقربهم الى الرئيس فؤاد شهاب،والدي مؤسسُ دار "الصياد" سعيد فريحه الذي كانَ من أركانِ العهدِ الشهابيِّ،وقد دفع من ثمن مسيحيته بالانفتاحِ على العربِ والعروبة، وصدقية وطنيته... لبنان اولاً.
آنذاكَ، كانَ يتألَّقُ لبنانُ باقتصادهِ ومستشفياتهِ وجامعاتهِ ومفكريهِ وفنانيه وعلمائهِ. وفي هذا المُناخُ، وُلِدتْ فكرةُ الصاروخِ اللبنانيِّ "أرز"، الذي تمَ تطويرهُ بنجاحٍ أثارَ دهشةَ الجميعِ في الشرقِ والغربِ... وربما مَخاوفهم!
***
بدأت القصةُ عام 1960 في جامعة هايكازيان، عندما أنشأ البروفسور مانوغ مانوكيان وطلابهُ جمعيةً تُعْنى بصناعةِ الصواريخِ لأغراضٍ علميةٍ.
وبدعمٍ ماليٍّ ومعنويٍّ من الرئيسِ شهاب، وبالتنسيقِ مع الجيش، تمتْ تجربةُ أولِّ الصواريخِ في ربيعِ 1962، "أرز 1"، فوصلَ إلى مدى 11.5 كيلومتراً.
وفي الصيفِ أُتبِعَ بصاروخينِ وصلا إلى 20 كيلومتراً. وفي الخريفِ، تم إطلاقُ "الأرز 3” فاجتازَ 425 كيلومتراً. وكان ذلك إنجازاً علمياً عظيماً، وقد وثّقتهُ جريدةُ "الأنوارِ" في صدرِ صفحتها الأولى آنذاك.
وتطوّرت صواريخُ "الأرزِ" سريعاً، وتمَّ تخليدُها في طابعٍ بريديٍّ. ولكن فجأةً، في صيف 1964، اندلعَ حريقٌ في مختبرِ الوقودِ في الجامعةِ أتى على المحتوياتِ. ومنذُ ذلكَ الحين، توقّفَ كلَّ شيءٍ.
وتردَّدَ لاحقاً أن الرئيس الفرنسيَّ شارل ديغول بعثَ برسالةٍ إلى الرئيس شهاب يقولُ فيها إن لبنانَ أثبتَ قدراتهِ العلميةَ، ولكن من الأفضلِ وقفُ التجاربِ تجنُباً للمخاطرِ.
لكن البروفسور مانوكيان الذي هاجرَ إلى الولايات المتحدة يقولها بصراحةٍ:
قوى خارجيةٌ منعتنا من امتلاكِ صاروخنا الوطنيِّ!
***
إذا كانتْ تجاربُ طُلابنا في 3 سنواتٍ أوصلت صاروخَ "الأرز" إلى 426 كيلومتراً، قبل 57 عاماً، فإلى أينَ كان سيصل لو أتيحَ لهُ التطوُّرُ ثلاثَ سنواتٍ أخرى، وأخرى وأخرى، وثلاثينَ ثم ثلاثين؟
بالتأكيدِ، كان "الأرزُ" سيحلِّقُ عالياً وبعيداً في فضاءاتِ هذا الكونِ الرحيبِ ويحققُ الإنجازاتِ.
ولماذا لا يكونُ واحداً من الصواريخِ التي صَنعتْ أمجادَ الفضاءِ في تلكَ المرحلة؟ ولماذا لا يكونُ اسمُ لبنانَ وأرزُ لبنانَ مخلَّدَينْ إلى جانبِ الكبارِ في هذا المجالِ؟
ألا تُشاركُ حتى اليوم نخبةٌ من عُلماءِ هذا الوطنِ الصغيرِ وباحثيهِ في إدارةِ برامجِ "ناسا" التي أوصلتِ الإنسانَ إلى القمرِ وما هو أبعدُ من القمرِ؟
***
نعم أيها السادةُ. على الأقلِّ فلتكن لنا حريّةُ التذكُّرِ.
في هذا الزمنِ البائسِ نستذكِرُ أن أمجادنا تتوغلُ 5 آلاف عامٍ من الحضارةِ والإشعاعِ، وخلالها علَّمْنا العالمَ أبجديةَ الحرفِ، وكُنا شرارةَ النورِ ولقاحَ الحضارةِ بين الشرقِ والغربِ.
نعم، نقولها بفخرٍ، ولكن بمحبةٍ وبلا مكابرةٍ.
ونقول أيضاً مع الأسفِ: "كُنّا"!
كنّا وجهَ الحضارةِ الجميلَ، وكنّا مصرفَ العالمِ العربيِّ وجامعتهُ ودارَ نشرهِ ومستشفاهُ ومسرحهُ وصحافتهُ الرائدةُ ولسانَهُ مع العالم وعقلَهُ وقلبَهُ، وكنّا الأوائلَ إلى الفضاءِ.
نعم، كانت تَليقُ بنا الحضارةُ. ومع الأسفِ، "كانتْ"!
كُنا، ولكن تدحرجْنا لنُصبحَ الأوائلَ في الفسادِ، والأوائلَ في العذابِ والقهرِ، والأوائلَ في التقهْقرِ!
كنّا شعباً مرفوعَ الرأسِ حضارةً ورقياً وثقافةً واحتراماً للإنسانِ ولكرامتهِ، فأرسلتنا منظومةُ الفسادِ إلى جهنمِ الحمراءِ!
***
"في الليلةِ الظلماءِ يُفتقدُ البدرُ".
اليوم، نفتقدُ رائدَ الوطنيةِ والعروبةِ المشرقةِ، قديسَ الزهدِ والنزاهةِ والشفافيةِ، باني المؤسساتِ وحامي الشعبِ الحضاريِّ، ونترحَّمُ على رئيسِ الرؤساء، فخامةِ اللواء فؤاد شهاب.
ومعه، نترحَّمُ على كوكبةِ الرجالِ الأقربينَ، وكانوا جميعاً من طينتهِ وسائرينَ على خُطاه، فطيَّبَ الله ثُراهم جميعاً.
وكم نفتقدُ اليومَ هذهِ الطينةَ من الرجالِ، في زمنِ السياسيين المنتفعينَ الذينَ أطلقَ شهاب عليهم صفة Fromagistes، أي أكَلَةُ الجبنةِ.
الرئيس شهاب الذي ماتَ فقيراً، والذي اضطرَ أصدقاؤهُ إلى جمعِ أكلافِ الجنازةِ، عندما رحلتْ أرملتهُ الفرنسية.
فقط في دولةِ النظافةِ والاستقرارِ والانتماءِ الوطنيِّ والمؤسساتِ، يصبحُ ممكناً تحقيقُ الأحلامِ بالتقدمِ والحضارةِ والازدهارِ.
ولكن، هيهاتِ... ودولةُ النظافةِ اليومَ.
***
أيها السادةُ، لقد جارَ علينا الزمانُ، وجارَ بنا المكانُ.
وأصبحنا ضحايا مئةِ مسيلمةٍ وألفٍ.
لكننا نختمرُ في وجداننا شموخاً وعزّةً وكرامةً ستعودُ ولو جارَ الزمانُ.
وسيبقى أرزنا شامخاً،
وشعبنا يختزنُ الحضارةَ في عروقهِ، مهما تكبَّرَ الفسادُ والفاسدون وتجبَّرَ النِفاقُ والمنافقونْ!