تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- "د. ميشال الشمّاعي "
كلّما تعقّدت الأمور أكثر استعَرَ الخلاف أكثر. وفي كلّ مرّة يستحضرون سببًا إضافيًّا ليبرّروا بوساطته خلافاتهم. وهذه المرّة أتى السبب من باب الصلاحيات. وهي نفسها التي انتقدوا تسمية دياب على أساسها. في حين أنّ الخلاف اليوم ليس على الصلاحيات بل في مكان آخر مختلف تمامًا.
بات جليًّا أنّ الصراع الموجود اليوم في لبنان هو بين مشروعين؛ وهذا ما بدا للعيان على أثر ثورة 14 آذار، ولم تفقد هذه الثورة بريقها إلا بعدما تمّ تقزيم أسباب نشوئها وانخراط بعض أركانها في لعبة تقاسم الحصص في الحكم، وقذف التّهم في مراحل التّعطيل. ونسي هؤلاء السبب الرئيسي الذي دفع أهلهم وناسهم للنّزول إلى الشوارع في 14 آذار. مقابل ذلك، صمدت فئة سياديّة وحافظت على مبادئها، حتّى في تعاطيها الشأن العام حتّى باتت تشكّل ظاهرة في العمل السياسي لم يشهد لبنان مثيلا لها طوال فترات ما بعد الطّائف.
أمّا اليوم بعد ثورة 17 تشرين وبعدما تمّ إلهاء النّاس بقوتهم اليومي، فتقزّمت هذه الثورة لتصبح " ثويرة" تتحرّك بحسب بعض المطالب، وخير دليل على ذلك الحراك الذي حصل في شارع الحمرا في اليومين المنصرمين؛ وفقدت قدرتها على توحيد تحرّكاتها في لبنان كلّه. لتستكمل حركة تقزيمها بإقحام ناسها في لعبة الصلاحيّات المستجدّة اليوم كما في الأمس القريب، في حين أنّ الصراع الحقيقي ما زال هو هو: بين مشروعين اثنين لا ثالث لهما. مشروع الفكر السيادي الكياني الحرّ الذي يريد بناء دولة قادرة وقويّة ومحايدة على قاعدة المساواة بين أبنائها جميعهم، والاحتكام إلى الكتاب لحلّ أيّ أزمة؛ وفريق ثانٍ يريد من هذه الدّولة أن تكون صندوق بريد في صراع الأمم، حدودها سائبة، وعملتها لا قيمة لها، وناسها كلّهم فقراء باستثناء أهل بيئته الذين ينعمون بدولارات تأتيهم من خارج الحدود أو من تلك التي غنموها من المصرف المركزي العراقي في زمن الفلتان الأمني هناك.
ويعتبر المجتمع اللبناني الثائر نفسه بأنّه يحمل مشروعًا مختلفًا عن هذين المشروعين، ومن دون أن يطرح أيّ مشروع بل يكتفي فقط بالشعارات العامّة كالعلمنة والدّولة المدنيّة وغيرها من الشعارات التي لا سبل لتطبيقها إلا من خلال مشاريع سياسيّة واضحة. لذلك كلّه، المطلوب من هذا الفريق اللبناني بالذات أن يضع مشروعًا سياسيًّا كاملا متكاملا يترك فيه رؤيته للدولة التي يريدها حتّى يشكّل مادّة للنقاش ورؤية واضحة للناس التي تريد اختياره. أو عليه أن يقول كلمته وسط صراع المشروعين الآنفين ويحدّد خياراته ويحسم أمره.
من هذا المنطلق، بات اللبنانيّون بمختلف أطيافهم أمام خيارات واضحة، لكن ما ليس واضحًا هو ما يتمّ التفاوض عليه سرًّا بين بعض أطراف الصراع في لبنان. في حين أنّ الوقت الذي يجب أن يصرف اليوم يجب أن يكون بقرب النّاس ووجعهم وليس في كيفيّة احتساب المغانم المجترحة ممّا تبقّى من دولة في لبنان بعدما عاثت فيها هذه الأكثريّة الحاكمة فسادًا ومحاصصة وخرابًا.
المطلوب إذا اليوم قبل الغد، إعادة إنتاج لسلطة سياسيّة تحرّر المؤسسات من الهيمنة السياسيّة عليها، وتسمح للقضاء بأن يطهّر نفسه بنفسه، ليستطيع أن يكون أداة حرّة بوجه أيّ فاسد مهما كانت مرجعيّته ومهما علا شأنه. وذلك لن يتمّ إلا من خلال انتخابات نيابيّة مبكرة ليستطيع النّاس الاختيار بموجبها أيّ مشروع يريدون. وعندها فليتحمّلوا جميعهم مسؤوليّاتهم تجاه وطنهم ودولتهم.
عدا ذلك، يبقى كلّ شيء لعبًا في الفراغ ولن يؤدّي إلى أيّ نتيجة. فلأولئك الذين ينتظرون أيّ تبدّل في السياسات الدّوليّة نقول في هذا الأسبوع الميلادي بأن لا شيء سيتبدّل. بل عكس ذلك تمامًا. المجتمع الدّولي ماض قدُمًا بسياساته نفسها تجاه أزمات المنطقة. وإن لم يستدرك لبنان الدّور الجديد الذي سيناط به في شرق المتوسّط فاللصّ الموجود على يساره جاهز للإنقضاض على هذا الدّور ليلوّن العالم بأكمله بالأزرق كما ادّعى نتانياهو في خطابه في آب الفائت.
من هنا، لا بدّ من صدمة إيجابيّة يقودها حملة المشروع السيادي الكياني من خلال قيادة فاعلة لثورة حقيقيّة تتجلّى في بٌعْدَيها: البرلماني والساحاتي. وإن لم يستجب شارع تشرين لثورته سيفقد هو الآخر ما منحه إيّاه اللبنانيّون في العام 2019. فهل تُختَتَم سنة 2020 بثورة حقيقيّة تضع الأمور في نصابها الحقيقي لتفتح الباب على جمهوريّة جديدة تشبه اللبنانيّين الذين يقولون الحقيقة دومًا مهما كانت صعبة؟