تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة ، قداسا وجنازا في كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الارثوذكس - ساحة النجمة، إحياء للذكرى ال 15 لاستشهاد جبران تويني ورفيقيه.
بعد الانجيل المقدس، ألقى عودة عظة قال فيها: "سمعنا في رسالة اليوم المأخوذة من رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي: "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة، والطمع الذي هو عبادة وثن، لأنه لأجل هذه يأتي غضب الله على أبناء العصيان". يعبر هذا المقطع عما يحدث حاليا في العالم أجمع، وفي بلدنا خصوصا. لم يمت الإنسان المعاصر أناه، بل تبع شهواته وغرائزه، ونسي الله، وعاث خرابا وحقدا وقتلا وفسادا، ونشر ثقافة الغاب حيث البقاء للأقوى، بدلا من بقاء الجميع معا يدا واحدة، يعيشون حياة محبة وأخوة ويتمتعون بكل شيء معا بفرح وسلام".
وأضاف: "سنوات مضت ونحن نحيا كغرباء في أرض الوطن، بسبب ثقافة غريبة عنا دخلت واستوطنت بيننا، ثقافة الفساد والإستنفاع واستغلال مقدرات الوطن، ثقافة الحقد والإستقواء والإستزلام، عوض المحبة والتسامح والحوار القائم على الفكر والفكر الآخر والتبادل بينهما. حلت عندنا ثقافة إسكات الألسنة الحرة، وقمع حرية التعبير، بدءا بالحملات المبرمجة، وصولا إلى الإغتيال المعنوي أو الجسدي. هذه الثقافة لا تزال سارية المفعول حتى يومنا، ولم يمل أصحاب ذاك النهج من إتباعه. لكن التاريخ يذكر الأبطال ويهمل الظالمين. يوحنا المعمدان، النبي السابق لقدوم المسيح، واجه الملك بالحقيقة، حقيقة سلوكه البشع، ولم يخف إعلانها، بل لم يكن هناك سبيل إلى إسكاته عن قول الحقيقة، فقطع رأسه. منذ بدء التاريخ، كان الإقصاء بشتى طرقه، حتى الموت، مصير من حمل الكلمة الحرة. المسيح نفسه، الذي هو الكلمة والحق، ظن صالبوه أنهم، بالقضاء عليه تحت حكم الموت، يسكتونه، لكن صدى تعاليمه ونمط حياته المؤسس على المحبة والتضحية بقي حيا، وسيبقى، إلى الأبد".
وتابع: "خمس عشرة سنة مضت على اغتيال الكلمة الحرة، المتمثلة برجل أحب وطنه حتى الموت، ولم يشأ أن يرى بلده محكوما من الغرباء، بل شاءه حرا، سيدا، مستقلا، مزدهرا، يذخر بشباب ينهضون به، ولم يتغير شيء. ما زالت حياتنا معمدة بالمآسي والأحزان، وما زالت المصالح الخاصة تتقدم على مصلحة الوطن، وما زال المواطن يعاني وليس من يسمع، وما زلنا نشهد كم الأفواه، وإسكات الأصوات التي تنادي بالحرية والإنعتاق من كل قيد. لو كان جبران تويني بيننا اليوم، لكان سيف كلمته مسلطا على كل من أوصل بلدنا إلى حضيضه. كل ما حلم به جبران، وأمثاله من الأحرار المثقفين، ودافعوا عنه بالفكر، بالقلم، بالحوار والمنطق، محترمين الرأي الآخر وكرامة الآخر، وصلنا إلى عكسه. فالبلد فقد كل مقومات الحياة، وهجره شبابه الذين يعول عليهم في إعادة ما هدمه الكبار، وما أكثر ما هدموه، والحرية هجرتنا منذ زمن بعيد، مذ باع أرباب السلطة سيادتهم، كل إلى غريب يأتمر بأمره. لقد نعينا السيادة، واليوم ننعى الإزدهار، في ظل حكام بعيدين كل البعد عن مفاهيم الحكم والحكمة، سياسة ساستنا قائمة على تجويع الفقير وإغناء الغني، لا على الحق والعدل والمساواة. أصبح المواطن عاجزا عن شراء رغيف الخبز ليطعم أبناءه، بعد أن فقد منزله وعمله وجنى عمره. هل هكذا يبنى الوطن الحر لمواطنين أحرار؟ كفانا دماء وقهرا وذلا وإفقارا وتجويعا وإسقاما، ألم يحن الوقت لأن ينعم اللبناني بالسلام والهناء؟ لقد سلبتم الناس حريتهم واليوم تسلبونهم كرامتهم. بالأمس كانت الإغتيالات تهدف إلى إسكات أفراد حملوا الحرية لواء، أما اليوم، بعدما أصبح الشعب بأسره ينشد الحرية وعدم التبعية، فقد أصبح الإغتيال جماعيا".
وأردف عودة: "قتلوا طموح اللبناني وأفكاره ونشاطه وشغفه بالحياة، وقتلوا حلمه بمستقبل أفضل في وطن متقدم متحضر. وها نحن في قعر القعر. لم يتعود زعماؤنا على رعاية شعب حر، بل اعتادوا على الخانعين، التابعين، الأزلام، الراضين بالقليل على حساب أمنهم وأمانهم، إلا أن الأمن والأمان ضاعا عندما قررت الدولة محاربة أبنائها بأموالهم وأعمالهم وصحتهم وثقافتهم ودراستهم. فماذا بقي لدى هذا الشعب ليخسره؟ ولكن، هل زاد خوف الحكام من شعب لم يعد يخشى الخسارة بعدما فقد كل شيء؟ هل ارتدعوا وأدركوا عظم خطيئتهم؟".
وأضاف: "لو كان جبران وأمثاله لا يزالون بيننا، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، بل لكانوا حركوا الشعب دافعين إياه نحو التمرد المثمر والحرية. جبران وأمثاله من الأحرار كانوا يسمون الأمور بأسمائها، ويشيرون إلى المجرم بالإصبع، على عكس أهل السياسة المعتادين على تدوير الزوايا وعقد التسويات والصفقات، حفاظا على المصالح الخاصة. هذا ما عايناه ولا نزال في مسألة تشكيل الحكومة التي كان يجب أن تشكل في وقت قياسي إنقاذا للأوضاع المذرية، إلا أن المصالح الخاصة لدى المسؤولين أهم من الشعب ومآسيه، ودموعه المذروفة على الضحايا والمهاجرين، والممتلكات المفقودة، والأموال المنهوبة. العالم أجمع يعي عمق المشكلة وينصحنا بكيفية الخروج منها. يتألمون عنا ويقدمون لنا الحلول، أما نحن ففي غيبوبة وسبات عميق. مسؤولونا غير مسؤولين، يتجاهلون مطالب الشعب ويتعامون عن الواقع، يصمون آذانهم عن أنين الموجوعين ويخدرون الشعب بعطاءات من مال الشعب، فيما تنتفخ جيوبهم ويجوع الشعب. يمننون المواطنين ببطاقات تموينية أو تمويلية وكأن الشعب مستعط لحقوقه، عوض أن يكونوا في خدمة الشعب. حتى الدستور أصبح مرهونا بالمصالح، وتفسير الدستور استنسابي. فكيف يستقيم البلد وهم حكامه؟ وهل إفقار الشعب وتجويعه مقصودان من أجل السيطرة على قراره؟".
وقال: "جبران تويني، أيها الشاب الطموح الحالم بوطن، يؤسفنا أن لبنان الذي ناضلت من أجله لم يعد وطنا، بل أصبح مجموعة دويلات وشعوب، ما يفرقها أكثر مما يجمعها. لقد قسموا قسمك، فما عاد أبناء الوطن الواحد موحدين. يؤسفنا أن دماء الأحرار سفكت عبثا، وأن الأقلام الحرة كسرت عبثا، وأن الأصوات الحرة خنقت عبثا. فبعد اغتيالك اغتالوا بيروت، ونحروا سكانها، وهم يمعنون يوميا في قتل لبنان.
نصلي اليوم، في الذكرى الخامسة عشرة لاغتيال الصحافي والنائب والرجل الحر جبران تويني ورفيقيه نقولا وأندريه، عل الرب إلهنا، الذي سيولد في مغارة بيت لحم من أجل خلاصنا، يسمع تنهدنا وتضرعنا، ويشفي بلدنا من المرض المستشري فيه، سرطان الفساد والنهب وسوء الإدارة وقلة الحكمة والدراية وغياب الضمير. نصلي داعين الرب أن يتغمد برحمته جميع من استشهد من أجل عودة السلام والحرية والفرح إلى هذا البلد وأبنائه".
وختم عودة: "دعوتنا اليوم أن نعيد النبض إلى قلب الحرية الذي يختنق، وأن نبقي صوت الحق عاليا، مهما بدت الأوضاع صعبة حولنا، فإن إلهنا "هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6)، وبه وحده الخلاص. هو العالم بكل شيء، لن يهمل أحباءه ولن يسمح للشر أن ينتصر. يقول النبي داود في مزاميره: "صرخوا إلى الرب في ضيقهم، فخلصهم في شدائدهم" (مز 107: 19). ليكن إيمانكم صادقا، ورجاؤكم عميقا، والرب لا يخذل محبيه. سيروا على طريق الحق حتى تعيدوا الحياة إلى بلدنا الحبيب. رحم الله جبران ونقولا وأندريه وجميع من افتدوا لبنان بأرواحهم، آمين".