تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
أقلعت الطائرة من بيروت متجهة غرباً وكنتُ ضمن وفد عسكري إلى مصر. فجلست أراقب عبر النافذة مداد البحر، منتظراً بشوق رؤية تلك القطعة من العالم، المُكتنِزة بالأسرار والأساطير .
أستقبلنا الضباط المصريون على أرض المطار، وانتقلنا بعد استراحة قصيرة إلى مقر إقامتنا، في فندق جنوب شرقي القاهرة. ورغم لطافة طقس الربيع ورونق المكان، لكن الرمال من حولك تُنبئك أنها أرض صلبة عصية على الغزاة، وتُذكّرك بأبطال هزموا هولاكو، وسحقوا أسطورة جيشه في "عين جالوت" .
كان احمد ضابطاً شاباً، اختارته القيادة المصرية لمرافقة الوفد في جولاته، فهو بالإضافة إلى وسامته وذكائه الحاد، يتمتع بحس الفكاهة، وعلى قدر عالٍ من اللباقة وحسن الأخلاق، التي يتميز بها الضباط المصريون، فعندما يُحدثك ستشعر أن لديك أخاً وصديقاً تعرفه منذ زمن .
بعد اجتماعات العمل والزيارات الرسمية، كان لنا حصة في الجانب الثقافي. فزيارة مصر لا تكتمل أذا لم تسافر معها عبر الزمن، وترى بأم العين ما لن تجده في بقاع العالم الأخرى. فهذه درة القارة السمراء، حلم الإسكندر وأرض الآلهة والمعجزات .
دخلنا قاعة تشرين، ولساعة من الوقت كنّا نعيش مع أبطال الجيش الذي حطم خط برليف وبُناته، في يوم واحد؛ إنها ملحمة بطولة حيّة، سجّلها رجالٌ نذروا أنفسهم في خدمة الوطن، وأبدع الفنانون في تصويرها، في بانوراما مدهشة، حتى أصبحت تحاكي ملحمة جلجامش روعةً وتشويقاً .
بدايةً ترى نسور الجو يفاجئون العدو في عمق دفاعاته، فيرتعب جنوده لمجرد سماع صوت الطائرات المصرية فوق رؤوسهم، رجال الضفادع يُعطلون الألغام وأنابيب الغاز في قناة السويس، مدفعية تُمطِر المواقع والتحصينات على الضفة الشرقية، صواريخ تصطاد طائرات العدو كأنها حمائم وادعة، ورجال الدبابات والمشاة يعبرون القناة ويندفعون باقصى سرعة الى داخل سيناء، فتنهار أسطورة الجيش الأسرائيلي الذي لا يُقهر، ليصبح مهزوماً بلحظات، ويفرُّ جنوده على غير هدى وفي كل اتجاه، يختبئون ويرفعون علماً ابيض علامة الإستسلام .
المحطة الثانية كانت في ضيافة ابو الهول. فهناك يختلط عليك الأمر، هل هذا تاريخ مصر، أم مصر هي التاريخ ؟ .
عبرت بنا الحافلة إلى الجيزة، فوق أطول نهر في العالم على «كوبري عباس»، فبدت المياه مُتعبة تتهادى كأنها ترتاح من عناء السفر المُضني بعد رحلتها من أعالي إثيوبيا والسودان. وإلى اليمين يُطالعك «أبيس» بقرنيه الجميلين، يحرس دلتا الخصوبة والخيرات المترامية شمالاً حتى ضفاف المتوسط .
وعندما تصل إلى الأهرام، تراها اصطفت لاستقبالك على خط اصطفاف الشمس والأرض والقمر، مع بداية السنة عند قدامى المصريين، أو كما يعتقد بعض الباحثين أنها تُشير إلى إضاءة نجوم النطاق (حزام الجبار). وهي تحكي لك قصة بدء التكوين، وسر الأسرار الدفين تحت آلاف هذه الصخور، التي نحتتها يد العمالقة، وجعلتها تنطق بعظمة شعب، رسم الغازاً سيجهد العالم لفك رموزها آلاف السنين .
يسمح لك خوفو بالدخول إلى غرفة الناووس، لكن سيُجبرك أن تحني رأسك قبل الدخول من هذه الكوة الصغيرة، لتسير في ممر ضيق داخل الهرم، بما يشبه العبور من الحياة ألى الموت. وفي الداخل تعتقد أنك في مواجهة حارس الجبّانة «أوزير»، وإذا نظرت إلى سقف الغرفة، ستعلم كم هو كبير وثقيل فوق رأسك، وزن وخفايا هذه الصخور المصقولة بإتقان، حيث استقلّ الإله رع مراكب الشمس، وأبحر تُجذّف له النجوم، إلى العالم الآخر للقضاء على الشر .
تركنا فراعنة الأهرام وسرنا على ضفاف النيل، هُنا حيث مشت إيزيس تجمع قِطع حبيبها أوزيريس. وعُدنا إلى داخل القاهرة نبحث في شوارعها الضيقة، في شارع المُعز؛ من الأزهر الى جامع الأنور وقصر الحاكم، كل حجر يُخبرك ألف حكاية، ويقول لك: هل جلست يوماً إلى مائدة ملك الآلهة آمون؟ هل تذوقت حنطة يوسف؟ هل شربت ماء الخصوبة من النيل؟ وهل قرأت كُتب دار الحكمة؟ هل حللت طلاسم سيا إله الذكاء؟ سيلزمك شهورٌ وسنين للتعرّف إلى مصر، ومَن لم يزُر هذه الأرض سيبقى جاهلاً نصف العالم أينما ذهب ومهما جاب من بلاد وأصقاع .
ما زلت أذكر الكثير عن أرض الآلهة تلك، وعن جيش عظيم حمل هموم أمة بكاملها، وحمى مجد مصر وشعبها، وسيبقى سياجها ودرعها الحصين، والأمين على مستقبل ابنائها. وستبقى تلك الزيارة في البال ، وهؤلاء الأخوة أحبتي، ذكرى طيبة لا تقوى عليها السنين .